سورة النحل - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النحل)


        


{أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} هم أهلُ مكةَ الذين مكروا برسول الله صلى الله عليه وسلم وراموا صدَّ أصحابِه عن الإيمان عليهم الرضوان، لا الذين احتالوا لهلاك الأنبياءِ كما قيل ولا من يعُمّ الفريقين لِما أن المرادَ تحذيرُ هؤلاء عن إصابة مثلِ ما أصاب أولئك من فنون العذابِ المعدودة، والسيئاتِ نعتٌ لمصدر محذوفٍ أي مكروا المكَراتِ السيئاتِ التي قصت عنهم، أو مفعولٌ به للفعل المذكور على تضمينه معنى العمل أي عمِلوا السيئاتِ، فقوله تعالى: {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الارض} مفعولٌ لـ (أمِن) أو السيئاتِ صفةٌ لما هو المفعولُ أي أفأمن الماكرون العقوباتِ السيئةَ، وقوله: أن يخسف الخ، بدلٌ من ذلك وعلى كل حال فالفاءُ للعطف على مقدر ينسحب عليه النظمُ الكريم أي أنزلنا إليك الذكرَ لتبين لهم مضمونَه الذي من جملته إنباءُ الأممِ المهلَكة بفنون العذاب ويتفكروا في ذلك، ألم يتفكروا فأمن الذين مكروا السيئاتِ أن يخسف الله بهم الأرضَ كما فعل بقارون، على توجيه الإنكارِ إلى المعطوفين معاً، أو أتفكروا فأمِنوا على توجيهه إلى المعطوف على أن الأمنَ بعد التفكرِ مما لا يكاد يفعله أحد، وقيل: هو عطفٌ على مقدر ينبىء عنه الصلةُ أي أَمُكِر فأمن الذين مكروا إلخ {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} بإتيانه أي في حالة غفلتِهم أو من مأمنهم أو من حيث يرجون إتيانَ ما يشتهون كما حُكي فيما سلف مما نزل بالماكرين.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِى تَقَلُّبِهِمْ} أي في حالة تقلُّبهم في مسائرهم ومتاجرهم، {فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ} بممتنعين أو فائتين بالهرب والفِرار على ما يوهمه حالُ التقلب والسير، والفاءُ إما لتعليل الأخذِ أو لترتيب عدمِ الإعجاز عليه دلالةً على شدته وفظاعته حسبما قال عليه السلام: «إن الله ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلته» وإيرادُ الجملة الاسميةِ للدلالة على دوام النفي لا نفْيِ الدوام.
{أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} أي مخافةٍ وحذرٍ عن الهلاك والعذاب بأن يُهلك قوماً قبلهم فيتخوّفوا فيأخذَهم العذابُ وهم متخوّفون، وحيث كانت حالتا التقلّبِ والتخوّف مَظِنةً للهرب عُبّر عن إصابة العذابِ فيهما بالأخذ وعن إصابته حالةَ الغفلة المنبئةِ عن السكون بالإتيان، وقيل: التخوّفُ التنقّص، قال قائلهم:
تخوّفَ الرحلُ منها تامكاً قردا *** كما تخوّفَ عودَ النبعة السفن
أي يأخذُهم على أن يَنْقُصَهم شيئاً بعد شيءٍ في أنفسهم وأموالِهم حتى يهلِكوا، والمرادُ بذكر الأحوال الثلاثِ بيانُ قدرة الله سبحانه على إهلاكهم بأي وجهٍ كان لا الحصرُ فيها {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيث لا يعاجلكم بالعقوبة ويحلُم عنكم مع استحقاقكم لها.


{أَوَلَمْ يَرَوْاْ} استفهامٌ إنكاريّ، وقرئ على صيغة الخِطاب والواو للعطف على مقدر يقتضيه المقامُ أي ألم ينظروا ولم يرَوا متوجهين {إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَىْء} أي من كل شيء {يَتَفَيَّأُ ظلاله} أي يرجِع شيئاً فشيئاً حسبما يقتضيه إرادةُ الخالق تعالى، فإن التفيّؤَ مطاوِعُ الإفاءةِ، وقرئ بتأنيث الفعل {عَنِ اليمين والشمآئل} أي ألم يرَوا الأشياءَ التي لها ظلالٌ متفيِّئةٌ عن أيْمانها وشمائلِها أي عن جانبي كل واحد منها، استُعير لهما ذلك من يمين الإنسانِ وشمالِه {سُجَّدًا لِلَّهِ} حالٌ من الظلال كقوله تعالى: {وظلالهم بالغدو والاصال} والمرادُ بسجودها تصرّفُها على مشيئة الله وتأتّيها لإرادته تعالى في الامتداد والتقلصِ وغيرِهما غيرَ ممتنعةٍ عليه فيما سخرها له، وقوله تعالى: {وَهُمْ داخرون} أي صاغرون منقادون، حال من الضمير في ظلاله والجمعُ باعتبار المعنى وإيرادُ الصيغةِ الخاصة بالعقلاء لما أن الدخورَ من خصائصهم، والمعنى ترجِع الظلالُ من جانب إلى جانب بارتفاع الشمس وانحدارِها أو باختلاف مشارقِها ومغاربها فإنها كلَّ يوم من أيام السنة تتحرك على مدار معينٍ من المدارات اليومية بتقدير العزيزِ العليم، منقادةٌ لما قُدّر لها من التفيّؤ أو واقعةٌ على الأرض ملتصقةٌ بها على هيئة الساجد، والحالُ أن أصحابها من الأجرام داخرةٌ منقادةٌ لحكمه تعالى، ووصفُها بالدخور مغنٍ عن وصف ظلالِها به، وكلاهما حالٌ من الضمير المشار إليه، والمعنى ترجع ظلالُ تلك الأجرامِ حالَ كونها منقادةً لله تعالى داخرةً، فوصفُها بهما مغنٍ عن وصف ظلالِها بهما، ولعل المرادَ بالموصول الجماداتُ من الجبال والأشجارِ والأحجارِ التي لا يظهر لظلالها أثرٌ سوى التفيّؤِ بما ذُكر من ارتفاع الشمسِ وانحدارِها أو اختلافِ مشارقها ومغاربها، وأما الحيوانُ فظلُّه يتحرك بتحركه، وقيل: المرادُ باليمين والشمائل يمينُ الفَلكِ وهو جانبُه الشرقيُّ لأن الكواكبَ منه تظهر آخذةً في الارتفاع والسطوعِ، وشمالُه وهو جانبُه الغربيُّ المقابل له فإن الظلال في أول النهار تبتدىء من الشرق واقعةً على الرُّبع الغربي من الأرض، وعند الزوالِ تبتدىء من الغرب واقعةً على الربع الشرقي منها، وبعد ما بُيّن سجودُ الظلالِ وأصحابِها من الأجرام السفلية الثابتة في أخبارها ودخورُها له سبحانه وتعالى شُرع في بيان سجودِ المخلوقات المتحركة بالإرادة سواء كانت لها ظلال أو لا فقيل: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ} أي له تعالى وحده يخضع وينقاد لا لشيء غيرِه استقلالاً أو اشتراكاً، فالقصرُ ينتظم القلبَ والإفراد إلا أن الأنسب بحال المخاطبين قصرُ الإفراد كما يؤذن به قوله تعالى: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} {مَا فِي السموات} قاطبة {وَمَا فِى الأرض} كائناً ما كان {مِن دَابَّةٍ} بيانٌ لما في الأرض، وتقديمُه لقلته ولئلا يقعَ بين المبين والمبين فصلٌ، والإفرادُ مع أن المرادَ الجمعُ لإفادة وضوحِ شمولِ السجود لكل فرد من الدواب.
قال الأخفش: هو كقولك: ما أَتَانِي من رَجُلٍ مثلِه وما أتاني من الرجال مثلُه {والملائكة} عطف على ما في السموات عطفَ جبريلَ على الملائكة تعظيماً وإجلالاً، أو على أن يراد بما في السموات الخلْقُ الذي يقال له الروح، أو يراد به ملائكةُ السموات، وبقوله: والملائكةُ ملائكةُ الأرض من الحفَظة وغيرِهم {وَهُمْ} أي الملائكةُ مع علو شأنِهم {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن عبادته عز وجل والسجود له، وتقديمُ الضمير ليس للقصر، والجملةُ إما حالٌ من ضمير الفاعل في يسجد مسندٌ إلى الملائكة أو استئنافٌ أخبر عنهم بذلك.


{يخافون رَبَّهُمْ} أي مالكَ أمرِهم وفيه تربيةٌ للمهابة وإشعارٌ بعلة الحكم {مّن فَوْقِهِمْ} أي يخافونه جل وعلا خوفَ هيبةٍ وإجلالٍ وهو فوقهم بالقهر كقوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} أو يخافون أن يرسِل عليهم عذاباً من فوقهم، والجملةُ حالٌ من الضمير في لا يستكبرون أو بيانٌ له وتقريرٌ لأن من يخاف الله سبحانه لا يستكبر عن عبادته {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي ما يؤمرون به من الطاعات والتدبيرات، وإيرادُ الفعل مبنياً للمفعول جرْيٌ على سَنن الجلالة وإيذانٌ بعدم الحاجةِ إلى التصريح بالفاعل لاستحالة استنادِه إلى غيره سبحانه، وفيه أن الملائكة مكلّفون مُدارون بين الخوف والرجاء، وبعد ما بُيّن أن جميعَ الموجودات يُخَصّون بالخضوع والانقياد أصلاً لله عز وجل أُردف ذلك بحكاية نهْيِه سبحانه وتعالى للمكلفين عن الإشراك فقيل: {وَقَالَ الله} عطف على قوله: {ولله يسجد}، وإظهارُ الفاعل وتخصيصُ لفظة الجلالة بالذكر للإيذان بأنه متعيِّنُ الألوهية، وإنما المنهيُّ عنه هو الإشراكُ به لا أن المنهيَّ عنه مطلقُ اتخاذِ إلهين بحيث يتحقق الانتهاءُ عنه برفض أيِّهما كان أي قال تعالى لجميع المكلفين: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} وإنما ذُكر العددُ مع أن صيغة التثنيةِ مغنيةٌ عن ذلك دلالةً على أن مساقَ النهي هو الاثنَيْنيّة وأنها منافيةٌ للألوهية كما أن وصفَ الإله بالوَحدة في قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} للدلالة على أن المقصودَ إثباتُ الوحدانية وأنها من لوازم الإلهية، وأما الإلهية فأمرٌ مسلَّمُ الثبوت له سبحانه وإليه أشير حيث أُسند إليه القول، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغَيبة على رأي من اكتفى في تحقق الالتفاتِ بكون الأسلوب الملتفَتِ عنه حقَّ الكلام ولم يشترِط سبقَ الذكرِ على ذلك الوجه {فإياي فارهبون} التفاتٌ من الغيبة إلى التكلم لتربية المهابةِ وإلقاءِ الرهبة في القلوب ولذلك قدّم المفعولَ وكرر الفعلَ أي إن كنتم راهبين شيئاً فإيايَ فارهبون لا غيرُ فإني ذلك الواحدُ الذي يسجُد له ما في السموات والأرض.
{وَلَهُ مَا فِى السموات والأرض} خلقاً ومُلكاً تقريرٌ لعلة انقيادِ ما فيها له سبحانه خاصة، وتحقيقٌ لتخصيص الرهبة به تعالى وتقديمُ الحرفِ لتقوية ما في اللام من معنى الاختصاصِ وكذا في قوله تعالى: {وَلَهُ الدين} أي الطاعةُ والانقياد {وَاصِبًا} أي واجباً ثابتاً لا زوالَ له لِما تقرّر أنه الإله وحده الحقيقُ بأن يُرهَبَ، وقيل: واصباً من الوصب أي وله الدين ذا كلفة، وقيل: الدينُ الجزاءُ أي وله الجزاءُ الدائمُ بحيث لا ينقطع ثوابُه لمن آمن وعقابُه لمن كفر {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} الهمزة للإنكار والفاء للعطف على مقدر ينسحب عليه السياقُ أي أعَقيبَ تقرّرِ الشؤون المذكورةِ من تخصيص جميعِ الموجودات للسجود به تعالى وكونِ ذلك كلِّه له، ونهيِه عن اتخاذ الأندادِ وكونِ الدين له واصباً المستدعي ذلك لتخصيص التقوى به سبحانه غيرَ الله الذين شأنُه ما ذكر تتقون فتطيعون.

3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10